فاضل ميراني
مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في 11 نوفمبر تشرين الثاني 2025، تبرز أمام القوى السياسية العراقية فرصة نادرة لإعادة النظر في المنظومة الانتخابية برمّتها، لا كمجرد عملية تقنية دورية، بل كأداة دستورية أساسية لضمان الاستقرار، وحماية التنوع، وترسيخ الثقة، وتصحيح المسار.
لقد أظهرت التجربة أن أزمة العراق لم تكن دائمًا في النصوص، بل في كيفية فهمها وتطبيقها. الدستور، بصفته المرجعية التي تحكم الحياة السياسية في البلاد، لم يُفعّل كما يجب، بل خضع أحيانًا لتأويلات ضيقة، أو انتقائية مصلحية، أو تعطيل متعمد، ما أدى إلى "جلطات" شديدة أصابت النظام السياسي بشلل جزئي أو كلي في لحظات عديدة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة دستورية واعية، تشارك فيها القوى السياسية، والنقابات، والمؤسسات الأكاديمية، لفهم مواضع النجاح والإخفاق في التطبيق، وليس فقط لتعديل النصوص. إننا بحاجة إلى وقفة وطنية صريحة نواجه فيها أنفسنا، لأن احترام الدستور ليس خيارًا سياسياً، بل أساس للشرعية.
من المهم التذكير بأن تجربة إقليم كردستان قد سبقت، من حيث التأسيس والبناء المؤسساتي، النظام العراقي الذي نشأ بعد عام 2003. رغم خصوصية الإقليم، فقد كانت مؤسساته التشريعية والتنفيذية نموذجا مبكرا للحكم المحلي المستند إلى الشرعية الشعبية والدستورية. هذه التجربة، التي تشكلت بفعل تضحيات ونضالات طويلة، لا يمكن عزلها عن السياق العراقي العام، بل يجب الاستفادة منها في أي مراجعة وطنية شاملة لمنظومة الحكم والانتخابات.
لا يمكن أن تُختزل الديمقراطية في لحظة الاقتراع فقط. فالمساءلة والمصارحة، والمراجعة الشفافة للأداء، عناصر لا تقل أهمية. إن المؤسسات المنتخبة، من البرلمان إلى الحكومة، مطالبة بتقديم كشف حساب واضح أمام الشعب. آن الأوان ليتوقف الخطاب السياسي عن تبرير الإخفاق، وليبدأ عهد المصارحة بشكل عملي، لا بالشعارات الجوفاء أو حملات التشويه.
ما قبل الانتخابات، لا بد من طرح سؤال جوهري: هل نريد انتخابات تفرز مجلسا نيابيا قويا يُمارس دوره بفاعلية؟ أم نسعى فقط لتدوير الأسماء وملء المقاعد؟ إن فهم معنى "النيابة البرلمانية" يجب أن يسبق الاقتراع، لا أن يتأجل إلى ما بعد الفوز. فالنائب ليس مجرد حاصل على أصوات، بل هو مؤتمن على وظيفة تشريعية ورقابية لا تحتمل العبث.
الناخب كذلك ليس مجرد رقم، بل مسؤول عن خياره، ومشارك فعلي في صناعة الواقع السياسي. والمرشح يجب أن يقيم بوضوح، من حيث برنامجه، مصدر تمويله، سلوكه، ومدى وعيه الدستوري. لا يصح أن يتعلم النائب الدستور بعد أدائه القسم، أو أن يكتشف دوره الرقابي والتشريعي متأخرًا.
كما أن الفصل بين السلطات ليس ترفًا قانونيًا، بل هو حجر الأساس في أي نظام ديمقراطي. لقد أدى غياب هذا المبدأ إلى خلق طبقة سياسية مستفيدة من الفوضى، وتراجعت هيبة المؤسسات، وظهر التداخل بين الوظائف، وانتشرت مظاهر التسيب والتجاوز. الفصل الواضح بين السلطات هو الذي يحمي النظام من الانهيار، ويمنع تحول الدولة إلى كيانات متناحرة تخدم مصالح ضيقة.
إن العراق اليوم أمام لحظة تحتاج إلى شجاعة في القرار، ووضوح في الرؤية، وإخلاص في النية. الإصلاح الانتخابي ليس خطوة معزولة، بل هو جزء من مشروع بناء دولة تحترم دستورها، وتؤمن بالتعددية، وتشرك كل مكوناتها، دون تهميش أو تمييز.
ما نحتاجه هو انتخابات تنبع من وعي، وتحترم إرادة الناس، وتفرز ممثلين حقيقيين، في برلمان يؤدي واجبه ويصون الدستور، لا يساوم عليه.