Kurdistan Democratic Party

Renewal  .  Justice  .  Coexistence


 

مسعود البارزاني أو الأفق الذي لا يمكن تجاوزه كورديا

أحمد الجربا*

حين تكون الأحاديث عن الكورد وعن القائد الكوردي مسعود البارازاني، فلا بُدَّ أن تختلط َوتتشابكَ العاطفةُ بالسياسة نظراً للعلاقةِ الشخصية التي تربِطُني بشخصهِ الكريم، ناهيكَ عن العلاقةِ التاريخيةِ التي تربِطُ بينَ قبيلةِ شمَّر العربية والعشائر البارازانية في العراق والعلاقة بين أُسرتينا والتي تمتدُ الى القرن التاسع عشر.
يجبُ الأخذُ بالاعتبار، أنَّ الكورد جزءٌ لا يتجزأ من تاريخِ المِنطَقةِ وحاضِرِها ومُستقبَلِها – كانوا وسيبقون – إلى جانبِ العرب الضمانةَ الأبرز لأمن المِنطقةِ وازدهارِها وسلامَتِها وأمنِها، والركيزةَ الأساسية للاستقرارِ في العراق وسوريا. ولنا في التاريخِ الحديثِ والمعاصر، الكثير من الشهادات التي تؤكِّد أنَّ ازدهار المنطقة يكون بِتضامُنِ العربِ والكورد واتفاقهم ووقوفِهم صفاً واحداً دِفاعاً عن حياتِهم ومُكتسباتِهم المُشتركة، وخيرُ دليلٍ على ذلك – المواجهات الدامية مع الإرهاب الفالت من عِقاله.
لم ينطلق القائد الكردي مسعود البارازاني قبل الاستفتاء الشعبي غير المُلزِم باستقلال كوردستان العراق من نُقمةٍ على شُركائهِ في الوطن، فما يؤكدُّ عليهِ نَهَجُ السيد البارازاني أنَّهُ بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن أفكارِ الانفصال. وكانت الظروف مؤاتيةً لهذا الانفصال في سنوات الجمر التي بدأت في العام 2005 وأيضاً حين استولى تنظيم داعش على أجزاءٍ كبيرة من العراق عام 2014، كان بإمكانهِ إعلانُ الاستقلال. ولكنّه كُرديٌ عِراقيٌ بِكُلِّ ما في الانتماءِ من نقاءٍ وتعالٍ على الصغائر.
حاولَ أن يترك المجال للكُرد والعرب أن يقولوا كلمتهم بالتراضي. فالرجل من السياسيين الذين لا يغامرون بشعوبهم وأنصارهم وأصدقاءهم وأخوتهم في التاريخ والجغرافيا، في معاركَ لا مُنتصرَ فيها، كما هي حالُ بعض القادة “الثوريين” لكنَّ مساعيه اصطدمت بجُدرانِ الطائفيةِ السوداء. فالموازين مقلوبة تماما، إنها تحزُّ في الأنفس، الرجلُ الذي سعى ومازالَ يسعى لإحقاقِ الحقِّ في العراق بعيداً عن سفكِ الدماءِ ورياحِ الكراهية، يتِمُّ مُعاقبَتَهُ من طرفِ الأقربون والأبعدون.
في رسالته التي نشرها يوم 9 آب/أغسطس 2015 يقول “تعلمتُّ من الشيخ عبد السلام البارازاني ثقافة التعايش، كما تعلمت من الشيخ أحمد البارازاني أنَّ أهمَّ ما في الدين والمعتقد هي الأخلاق وأنَّ الأيمان أقوى من أي شيء، أما الوالد فتعلمت منه حياة البيشمركة، ومن الوالدة تعلمت الصدق، وأما مولانا الشيخ خالد النقشبندي فتعلمت منه القدرة على التحمل”.
رُغمَّ أنهُ أمضى جلَّ عُمُرِه في صفوف القوات الكوردية (البيشمركة) وها هو يواصل، كما أكدَّ في طلب اعفاءه من منصب رئاسة الإقليم، يبقى مسعود البارازاني السياسي المُخضرم الذي عرف حماس ثوريي الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت واستقر عند نضوج قادة التسعينيات والالفية الثالثة وهدوئهم ونَفَسِهم الطويل، مِنَ الذين بردت سخونة الأيديولوجيات في رؤوسهم بعد الزلزال السوفياتي وحروب الكراهية والبغضاء المنتشرة كالسرطان في الشرق. شَرعَ في سلك الدروب الأقل كُلفةً بشرية ودماراً وزرعاً للأحقاد، الدروب التي ستؤدي إلى حيث الاستقرار وإن طال الطريق.
يقول الحكيم الهندي غاندي: “لن أندَم على أي شخص دخل حياتي ورحل فالمُخلِص أسعَدَني والسيء منحني التجربةَ والأسوء كان درساً لي، اما الأفضل فلن يتركني ابداّ ” هذا هو حال لسان أبو مسرور اليوم.
مرونةُ البارازاني لا ينكرها إلا كل جاحد. فقد كانَ طوالَ الوقتِ يبحثُ عن حلٍ وسط العواصف وبعيدا عن الأحقاد، فبعد الكارثة التي حلت بالعراق على أثر غزو الكويت، تقدم البارازاني وكان يشغَلُ يومها رئيس الجبهة الكوردستانية بمشروعِ مصالحةٍ وطنيةٍ بين الكورد ونظامِ البعث، مُتجنِباً فكرة الانتقام التي راودت خصومَ نظام صدام المنهار والمحاصر دولياً. وفي حديثهِ عن أولِّ اجتماعٍ لَهُ مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين, أنَّهُ شَعرَ بالغضب عندما رأى صدام الذي تسببَ بالأنفال – وهو الاسم الذي اختاره صدام لحروبه ضد الكورد – ثمانية آلاف شخص من البارازانيين من بينهم 37 شخصاً من أقربائهِ المُقربين، فضلاً عن 182 ألفَ كوردي، مُضيفاً أنَّهُ احتاجَ لوقتٍ كي يتمكنَّ مِن ضبطِ مشاعرهِ في اللقاء, وخاطبَ صدام قائلاً: “أنت تعلم أنني سبحت في بحرٍ من الدماء لأصِلَ إلى هذا المكان, ورُغمَ ذلك أنا جاهز لأي حلٍ للقضيةِ الكوردية” فأجابَهُ صدام: “أعلمُ أنك اتخذت قراراً صعباً بالمجيءِ إلى بغداد”.
البارازاني بعد الاستفتاء وانسحاب البيشمركة من كركوك، وسيطرةُ الجيش العراقي والحشد الشعبي عليها واستقالتهُ من منصبِ رئاسةِ الإقليم، هو نفسهُ البارازاني الذي وقف في مركز مواجهة الأخطار المحدقة بالعراقيين والسوريين جميعاً على اختلافِ انتمائاتهم الدينية والعرقية، وفتحَ أبوابهُ للعربِ الهاربين من جرائم داعش، حيث يوجد أكثرُ من مليوني لاجئ ونازح سوري وعراقي في كوردستان العراق وبذلك أصبحَّ الإقليم هو الملاذ الآمن لهؤلاء الهاربين من مجازر داعش ومثيلاتها.
المثيرُ للريبةِ والاندهاش، هو موقف الدول التي تنظُرُ إلى الخطر الإيراني باعتبارهِ واقعاً يكتوي بنارهِ شعوب المنطقة، وتتفاقمُ نيرانهُ في كل زاويةٍ في المنطقة، وأمامَ هذا التحدي الإيراني كانَ المشهدُ مريباً حين وقف الجميع – عرباً وقِوى دولية غربية – مكتوفي الأيدي. ولا بُدَّ من التأكيد أنَّ إضعافَ مسعود البارازاني هو إضعافٌ للعراق وللصوت الحر المتوازن فيه.
ليسَ من السهلِ أن تكونَ قائداً لقضيةٍ تحمِلُ تشابُكَها وتعقيدها في مِنطقة تضجُّ بالأزمات، وليسَ من السهلِ أن تنجحَ في مواصلةِ القيادة بكُلِّ هذهِ الهمة والروية والتأني والسلامة، أن تسيرَ في مِنطَقةٍ كلُّ مُنعطفٍ فيها مليءٌ بالألغام في كل الاتجاهات. ذاكَ هو البارازاني الذي قادَ شعبهُ في أحلك الأيام وبقي على وئامٍ مع شُركائهِ في التاريخِ والجغرافيا، بقي مُخِلصاً لقضية شعبه وللشراكةِ التي تربط هذا الشعب بالعرب وغيرهم، فأصبحَ إقليم كوردستان بفضل سياسته المكانَ الآمن للجميع، وسط النيران التي تُحيط بهِ من كل حدبٍ وصوب، فقد بقي بابهُ مفتوحاً ويدهُ ممدودة أمام العرب الناجين من أهوال الحرب في سوريا والعراق، ولعلهُ يدفع ثمن ذلك.
حاولَ رسم خريطةَ طريقٍ واضحة وبسيطة لمستقبل الكورد وعلاقتهم معَ عِراقٍ لم يُحقق آمالَ غالبية العراقيين في الديمقراطية والعدالة. وها هو البارازاني يعودُ إلى المرحلةِ الأولى التي يعتزُ بها، ولكنهُ وبعد كل هذه التجربة يبقى هو الأفق الكوردي الذي لا يمكن تجاوزه، ولا بُدَّ لكل يدٍ تحلمُ بمنطقة أفضل أن تكون في الطرف الحليف للبارزاني، الذي يبقى حاضراً وإن غابَ عن المناصبِ الرسمية، فمن نَذرَ نفسه لقضية وكان جديراً بعدالتها، وإنسانياً في التعامل مع الخصوم والأصدقاء فلا مناصَ من مَدِّ الأيدي إليه. ومن هذا المُنطلق، كانَ البارازاني وسيبقى هو الرقم الصعب في المعادلة ولو بَلَغَت الحشودُ أنَّا بَلَغَت.

*رئيس تيار الغد السوري

المصدر،  موقع الغد السوري